نظريات السياسات العامة
- الرئيسة
- / نظريات السياسات العامة
ضوابط منهجية لدراسة السياسات العامة
تم نشر هذه الدراسة في مجلة المعهد المصري ، المجلد ٥ ، العدد ١٧ يناير 2020م
مقدمة
هل تختلف طريقة عمل باحث السياسات العامة في الوطن العربي وطرق تناوله للمواضيع والمشكلات عن طريقة عمل باحث السياسات العامة في أي مكان أخر في العالم؟ لا أقصد هنا الاختلافات الناتجة عن التمايزات الثقافية والحضارية بين الحضارات والبلدان المختلفة، ولكن أقصد الاختلافات الناتجة عن اختلاف السياق السياسي والاقتصادي لبلدان الوطن العربي وبالأخص بعد موجات الربيع العربي التي بدأت في 2011 ولم تنته حتى الان وتأثيرها على طريقة عمل باحث السياسات. وبمعنى أخر، هل يمكن للربيع العربي ان يؤثر على باحث السياسات العامة وطريقة تناوله للمواضيع؟ وإذا كانت هناك تمايزات واختلافات، فما هي؟ وكيف يمكن لباحث السياسات العامة في الوطن العربي أن يتعامل مع سياق الربيع العربي بطريقة تؤدي إلى نتائج أفضل للدارسات والأوراق التي ينتجها ولبلدان الوطن العربي وشعوبها؟
شخصيا، كباحث متخصص في السياسات العامة وكأحد شباب الربيع العربي في نفس الوقت، فإن هذا أثر على اهتماماتي البحثية التي تتركز في مجالين رئيسيين:
الأول: مجال تغيير السياسات العامة كمدخل للتغيير السياسي، فواحد من الأسباب الرئيسية لعدم قدرة الحكومات المنتخبة ديموقرطيا أو الفاعلين السياسيين الساعيين للتغيير عن إدارة التغيير السياسي الديمقراطي هو بسبب عدم قدرتهم في أحيان كثيرة على إدارة عملية تغيير السياسات، من السياسات القديمة التي تكون غالبا قد ثبت فشلها إلى سياسات جديدة قادرة على مواجهه التحديات وإيجاد حلول لها. وكما دلت عليه تجارب دول الربيع العربي، فإن أهمية هذه المشكلة تكمن في أنه إذا استطاع الفاعلون السياسيون إدارة عملية تغيير السياسات العامة، سواء كانت هذه السياسات في المجال الاقتصادي أو في إصلاح أجهزة الدولة، أو في التعامل مع المشاكل الاجتماعية والحياتية، مع تقديم سياسات ديمقراطية بديلة لإدارة المرحلة الانتقالية فإن هذا سيساهم في إعلاء فرص استكمال التغيير السياسي في بلدان المنطقة.
والمجال الثاني الذي أهتم به يركز على صنع السياسات العامة خارج دول أوربا وأمريكا الشمالية، فمجال تركيزى الأساسي هو عن صنع السياسات العامة في الدول النامية والديمقراطيات الناشئة في أسيا، أفريقيا، وأمريكا اللاتينية باعتبار أن هذه الدول لها طبيعة سياسية واقتصادية مختلفة عن دول أوربا وأمريكا الشمالية، كما أن لهم تحديات ومشاكل مختلفة عنهم، ما يجعل طبيعة صنع السياسات العامة في هذه الدول مختلفه بشكل واضح. هذا الاختلاف أشار إليه من قبل الباحث الأمريكي الشهير دونالد هوروتز في عام 1989 في مقالته عن صنع السياسات في دول العالم الثالث[1]، وفي حين أن مصطلح العالم الثالث لم يعد يستخدم الآن بشكل واسع بعد انتهاء الحرب الباردة، لكن الأفكار الموجودة في المقال؛ بالإضافة إلى الاختلافات الحقيقية الموجودة في هذه الدول تجعل هذا المجال البحثي في حاجة إلى مزيد من الجهد والبحث.
لكن أهمية هذا الموضوع ليست شخصية فقط، فدول الربيع العربي في الموجة الأولى التي بدأت في تونس ومصر عانت من غياب سياسات بديلة يمكن أن تساهم في إدارة أفضل للمراحل الانتقالية. أما الموجة الثانية التي بدأت في السودان والجزائر، فتبدو أنها استفادت سياسيا بصورة ما مما حدث من أخطاء في الموجة الأولى، لكن لا تزال الإستفادة غير واضحة في مجال إدارة الدولة وتغيير السياسات العامة لها. والفرضية الأساسية التي تقوم عليها هذه الورقة أنه لكي يكون لدينا في الوطن العربي قدرة أكبر على إنتاج سياسات مناسبة للسياق الحالي الذي نمر به من احتجاجات شعبية وتغيير سياسي ومطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية فإن هذا يقتضي تغيير طُرق عمل باحثي السياسات العامة وتناولهم للمواضيع والمشاكل المختلفة.
ربما يكون من المهم التذكير أن مجال السياسات العامة قد شهد حالة من النمو في السنوات القليلة الماضية، وكان موضع اهتمام عدد متزايد من الباحثين. فحاليا، توجد في مصر ودول العالم العربي مراكز بحثية متعددة تعمل في السياسات العامة كمجال رئيسي لعملها أو كمجال ضمن مجالات أخرى متعددة، منها على سبيل المثال، المعهد المصري للدراسات الذي لديه وحدة متخصصة في السياسات العامة، والمركز المصري لدراسة السياسات العامة، منتدى البدائل العربي للدراسات، حلول للسياسات البديلة، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، وغيرها. لكن مع هذا، فينغي التذكير أيضا، أن عدد هذه المراكز غير قادر على مواجهه التحديات الحالية. فهذه المؤسسات والمنظمات لاتزال لديها مشكلتان رئيسيتان على الأقل:
المشكلة الأولى متعلقة بقلة عدد المراكز البحثية المتخصصة في السياسات العامة وضعف إمكانياتها المادية والبشرية اللازمة للعمل في هذه المجالات. فالعمل في مجال السياسات العامة يحتاج إلى كوادر فنية ومهنية من مجالات متعددة، بعضها في أحيان كثيرة يكون لديه خبرة في العمل في نفس المجالات محل البحث. وبسبب تنوع المواضيع واختلافها، فإنه من الصعب جدا على مركز بحثي واحد فضلا عن وحدة بحثية أن تستطيع العمل على أغلب مواضيع السياسات العامة، وهذا يدفع الوحدات والمراكز إلى التركيز على موضع أو اثنين فقط للعمل عليه بشكل مكثف. ورغم أن هذه استراتيجية جيدة من أجل ضمان صدور أوراق ذات مستوى جيد، وأن يكون لدى الباحثين خبرة بحثية ومهنية في مجالات محددة تتراكم عبر الزمن، لكن حجم المشكلات الكبير والمتعدد الموجود في دولنا العربية من المفترض أن يقابله عدد أكبر من المراكز والباحثين، لكن هذا لايحدث للأسف بسبب ضعف الإمكانيات المادية والبشرية. وعلى أهمية هذه المشكلة، لكنها خارج نطاق اهتمام هذه الورقة.
المشكلة الثانية والأهم: تتعلق بالمنهجيات البحثية والأكاديمية التي تستخدمها المراكز والوحدات البحثية العاملة في مجال السياسات العامة. فأغلب عمل هذه الوحدات ينصب في الأساس على متابعة السياسات التي ترغب الحكومات الحالية بتنفيذها، أو التي تنفذها بالفعل. في محاولة من هذه المراكز لأجل تقييم نجاح هذه السياسات ومدى قدرتها على إحداث تأثير حقيقي، وتحقيق النتائج المرجوة. وفي أحيان أخرى، فإن هذا قد يكون مصحوبا بتقديم عدد من الإقتراحات والتوصيات البديلة على السياسات الحالية والتى يمكن أن تساهم في تحسينها، أو الوصول إلى نتائج أفضل. وعلى الرغم من أهمية هذه الخطوات، إلا أنها لاتزال غير كافية وتحتاج إلى مزيد من التطوير. والمحور الأساسي لهذا التطوير هو في شكل المناهج البحثية والطرق المستخدمة لتناول المواضيع والمشكلات في الوطن العربي بشكل يلائم السياق السياسي والاقتصادي الحالي وهذا ما تحاول هذه الورقة اقتراحه.
لقرأة النص الكامل للدراسة برجاء الاطلاع علي ملف الـ PDF